الحالة النفسيــة للطفل مجهول النسب

نظرا للكثير من المتغيرات الأخلاقية والاجتماعية فى السنوات الأخيرة بدأت تتزايد ظاهرة الأطفال مجهولى النسب، أولئك الذين جاءوا عن طريق علاقة غير شرعية أو علاقة غير معلنة أو غير مثبتة بالطرق الرسمية.

وفى حين يستقبل الطفل المولود فى الأحوال العادية بفرحة ويحاط بالرعاية فى حضن أمه وفى كنف أبيه ويكبر فى جو من الحب والقبول ويشعر بالانتماء لأسرته وعائلته ويفخر بذلك الانتماء وتتحدد عليه هويته، نجد على الجانب الآخر أن الطفل المولود مجهول النسب يستقبل بوجوم وحزن وأحيانا رفض ثم حين يكبر يكتشف أنه بلا هوية وبلا انتماء.



وفي ما يلى نتتبع الآثار النفسية التى تقع على هذا المولود:

فترة الحمل

حين تدرك الأم أنها حامل من علاقة غير شرعية أو علاقة سرية "زواج عرفى غير مثبت" ينتابها القلق على مصير هذا الحمل، وربما تكون هناك محاولات للتخلص من هذا الحمل هربا من مشاكله وتبعاته. ومن المعروف علميا أن مشاعر القلق أو الخوف أو الغضب أو أي مشاعر سلبية أخرى تنتقل إلى الجنين عبر رسائل كيميائية تنتشر فى دم الأم، ومن هنا نتوقع زيادة احتمالات القلق والتوتر فى الطفل الذى نشأ جنينا لأم قلقة مضطربة. ومن المعروف أيضا أن مشاعر الرفض للجنين تنتقل إليه بشكل نعلم بعض جوانبه وتؤثر فى صفاته بعد الولادة فيأتى إلى الحياة ولديه مشاعر غضب زائدة عن أقرانه، إضافة إلى أن الجنين يتأذى كثيرا عضويا ونفسيا بمحاولات الإجهاض التى تجرى للتخلص منه وتترك هذه المحاولات آثارا غائرة قد لا يمحوها الزمن.

ما بعد الولادة

يستقبل هذا المولود استقبالا فاترا وربما تجرى محاولات للتخلص منه بالقتل أو إلقائه على قارعة الطريق، وحتى إذا لم يحدث هذا فإن الأم "وأسرتها" تشعر أنها فى ورطة مع وجود هذا الطفل مجهول الأب أمام الناس، وهذا ينعكس فى صورة إهمال للطفل ومشاعر سلبية تجاهه قد تكون ظاهرة أو تكون خفية، ولكنها فى النهاية تصل إليه وتؤذيه ويشعر معها بطرق مختلفة أنه غير مرغوب فيه، ومن هنا تنشأ لديه مشاعر عدائية نحو الآخرين الذين يرفضونه أو يهملونه أو ينوون التخلص منه أو – على الأقل - يتمنون ذلك.

وتشهد الأيام التى تلى ولادة هذا الطفل صراعات كثيرة وحيرة أكثر لأن الأمر يتطلب تسجيله فى الأوراق الرسمية واستخراج شهادة ميلاد له، وهنا تعيش الأم وأسرتها فى أزمة حين يرفض الأب الحقيقى إلحاقه به، وربما ينتقل الأمر إلى المحاكم أو إلى مجالس التحكيم أو إلى صفحات الجرائد وشاشات التلفاز – كما حدث فى بعض الحالات – وهنا تزداد الفضيحة ويلحق بهذا المولود "أو المولودة" وبأمه وصمة أخلاقية واجتماعية يذكره الناس بها، وربما يعطى له أى اسم للخروج من هذه الأزمة مؤقتا لحين البت فى أمره.

مرحلة الطفولة

لا ينعم هذا الطفل "أو هذه الطفلة" بحياة طبيعية فالأم فى حالة تعاسة بسبب تنكر الأب لابنه، وهى إما تسعى بين المحاكم لإثبات نسبه أو تتذلل لأبيه لقبوله وقبولها، وهى فى كل الحالات تواجه وصمة اجتماعية وأخلاقية لا تقل "بل تزيد" عن تلك التى يواجهها طفلها، وبما أن الأم هى المحضن الوحيد للطفل فى هذه الحالة إذن نتوقع أن تنعكس حالتها النفسية التعسة والغاضبة على طفلها ويعانى الإثنان معا نظرة اجتماعية جارحة وواصمة ومؤلمة ورافضة ومتسائلة ومتشككة، مهما بدا فى الظاهر غير ذلك. والطفل حين يكبر يكتشف أنه مختلف عن أقرانه الذين يرى آباءهم يحضرونهم إلى المدرسة أو يستقبلونهم بالأحضان عند انتهاء اليوم الدراسى ويصحبونهم إلى البيت ويشترون لهم الهدايا ويصحبونهم فى الرحلات ويحمونهم من أية مخاطر تهددهم، أما هو فلا يجد حوله إلا أما بائسة ضعيفة منبوذة كسيرة غاضبة وحيدة.

مرحلة المراهقة

وتحتد الأزمة فى فترة المراهقة حين يتأكد المراهق أنه مجهول النسب، خاصة أن هناك مايسمى بأزمة الهوية يمر بها كل مراهق لتتحد كينونته وأهدافه وتوجهاته فى هذه المرحلة من العمر، وإذا كان المراهق العادى يمر بهذه الأزمة مع بعض الصعوبات المحتملة فإننا نجد أن المراهق مجهول النسب يعانى بشدة فى هذه المرحلة لأن أصل الهوية الشخصية والعائلية مفقود فهو لا يعرف من أبوه، وبالتالى لا يعرف إلى من ينتمى، فى الوقت الذى يرى أقرانه ينتمون إلى آبائهم ويفخرون بانتسابهم لعائلاتهم، أما هو فيشعر أن الأرض قد غارت من تحت قدميه، فلا توجد أرض صلبة يقف عليها فهو أشبه ببناء بلا أساس. والهوية مطلب أساسى بالنسبة للإنسان، وهى حين تكون غامضة أو مضطربة أو مشوهة تجعل البناء النفسى هشا أو مشوها. ولا يتوقف الأمر لدى الطفل أو المراهق مجهول النسب عند عدم معرفته بأبيه وإنما يزيد على ذلك نظرته لأمه التى أنجبته من علاقة خاطئة ولم تهئ له مقدما طبيعيا لهذه الحياة، وهنا تتكون لديه مشاعر متناقضة نحو أمه، فمن ناحية هى مصدر الانتماء الناقص والوحيد له وأيضا مصدر الرعاية "إن كان ثمة رعاية" وفى نفس الوقت هى مصدر الوصمة الاجتماعية وعدم الاحترام له ولها، ولهذا نجد أن مشاعره يختلط فيها الحب بالكراهية والغضب والاحتقار والعتاب والاحتجاج، وهذه المشاعر المتناقضة ليست فقط من الطفل أو المراهق تجاه أمه وإنما هى تسير أيضا من الأم تجاه ابنها "أو ابنتها" فعلى الرغم من الحب الأمومى الفطرى إلا أن هناك مشاعر رفض وتورط، فهذا الابن "أو الابنة" يعلن عن الخطيئة ليل نهار أمام كل الناس، كما أنه يمثل جزءا من هذا الأب الذى استغل الأم وأخذ منها ما أخذ ثم تركها تواجه عواقب هذا الفعل وحدها وتعانى من آثاره هى وابنها، كما أن هذا الطفل قد يعوق زواج أمه ويصبح عقبة فى طريق حياتها.

وقد وجدت الأبحاث أن الأطفال مجهولى النسب تزيد بينهم الاضطرابات الانفعالية والسلوكية، مثل السلوك العدوانى والسرقة وصعوبات التعلم، وهذه الاضطرابات لها جانب وراثى وجانب مكتسب، أما الجانب الوراثى فيعود إلى النشأة البيولوجية لهذا الطفل، فقد وجد أن النساء اللائى يحملن سفاحا يكنّ أقل ذكاءا على وجه العموم حيث يتراوح ذكاءهن من 83 إلى 96  " الذكاء المتوسط من 90 إلى 110 "، وهنّ من طبقات دنيا فى الأغلب، وأما الجانب المكتسب فقد وجد أن  الحمل سفاحا يرتبط بسمات مرضية فى شخصية المرأة يمكن أن يكتسبها الإبن أو البنت مثل الاندفاع والمخاطرة والتقلب الانفعالى وعدم تقدير العواقب. كما أن الجو النفسى الذى ينشأ فيه مجهول النسب منذ بداية حمله – كما ذكرنا – يعطى دائما تأثيرات سلبية على السلوك.

متى وكيف نخبر هذا الطفل عن نسبه؟ 

إن السؤال المحير فى هذا الموضوع هو: متى وكيف نخبر هذا الطفل عن نسبه؟ 

والإجابة تتوقف على عوامل كثيرة، ولكل حالة السيناريو المناسب لها، ولكن الخبرة أثبتت أنه من الأفضل إخبار الطفل في ما بين الثانية والرابعة من عمره بشكل بسيط يستوعبه عقله الصغير، فيقال له أن أبوه قد ذهب بعيدا وأن من يقوم على رعايته يحبه ولن يتخلى عنه أبدا، وذلك حتى لا يعلم الطفل بحقيقة نسبه من خارج الأسرة فيشعر عندئذ أن من يقومون على رعايته قد أخفوا عنه الحقيقة. وليس من المفيد إخباره بتفاصيل الأمر لأن ذلك قد يؤدى إلى كراهيته للأب الذى غرر بأمه ثم تخلى عنها ويؤدى إلى نظرة احتقار لأمه، كما لا يجب تلفيق قصص وهمية، وإنما يكتفى – كما ذكرنا – بذكر أن الأب قد ذهب فى سفر بعيد وربما لا يعود.وبعض الأسر تؤجل ذلك حتى سن السابعة أو الثامنة حتى يستطيع الطفل استيعاب الموقف بشكل أفضل، وبعض الأسر تؤجل ذلك حتى يكبر الطفل ويصل إلى مرحلة الشباب ويصبح قادرا على الاستقلال والاعتماد على نفسه، وفى كل الحالات يجب مواجهة الآثار التى تترتب على معرفة الشخص بحقيقة نسبه ودعمه نفسيا حتى يتجاوز هذه المحنة.

أما بخصوص تسمية هذا الطفل فأحيانا يعطى اسما عتباريا غير محدد تختاره أمه كيفما اتفق، وفى أحيان أخرى يعطى اسم عائلة أمه مع الوضع فى الاعتبار المسائل الفقهية الخاصة بالتبنى والميراث وغيرها.

وأم الطفل مجهول النسب تحتاج للرعاية والدعم من الناحية النفسية والاجتماعية حتى تستطيع أن تربى طفلها "أو طفلتها" بشكل أقرب إلى الطبيعى. ويحتاج الطفل لمن يقوم بدور الأب البديل، وقد يقوم الجد أو الخال أو أحد الأقارب بهذا الدور لكى يعطى نموذج الأب، وهو نموذج ضرورى من الناحية النفسية والتربوية، وغيابه يؤدى إلى خلل فى البنيان النفسى للطفل. ولا ننسى فى كل الأحوال أن هذا الطفل جاء إلى الحياة بغير ذنب جناه، وأن من حقه أن ينعم بالحياة كأي طفل وأن تبذل كل الجهود لرعايته وتهيئة الظروف له كى ينشأ بشكل أقرب ما يكون للطبيعى رغم كل الظروف السلبية التى أحاطت بمقدمه ونشأته، وعلينا كمجتمع أن نحفظ له كرامته كإنسان وندعم هويته المهتزة أو المكسورة كلما أمكن ذلك، وأن لا نحاسبه على خطإ لم يرتكبه مصداقا لقوله تعالى " لا تزر وازرة وزر أخرى".

 


الفئة: مقالاتي | أضاف: admin (2013-سبتمبر-14)
مشاهده: 1141 | الترتيب: 5.0/1
مجموع التعليقات: 0
الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]