ملك الحمقى .
في سنةٍ من السنين صَمّمَ رجلٌ اسمُه طَلال أن يصيرَ مِن أكثرِ الناسِ ثقافة ، فقرأ الكثيرَ من الكتب حتّى جاء يومٌ أيقنَ فيه أنه قد حقّقَ ما تمنّى ، وأنّ رأسَهُ قد احتَوى على كلِّ ما في الكتبِ مِن مَعلوماتٍ وأفكار .
وعندئذٍ قرّرَ أن يَستخدمَ ما تعلّمَهُ لنفعِ أهلِ مدينتهِ التي وُلِد فيها ، وكلّف طلالٌ مُنادياً يَدورُ في طُرُقاتِ المدينةِ ليصيحَ : ( أيّها الناس ، إنّ ابنَ مدينتِكُم طلال عبقريَّ زمانهِ ، وسيّدَ علماءِ عصرهِ ، قد قرّرَ أن يوظِّفَ عِلمَهُ لخدمتكُم جميعاً ) ..
فليَقصُده مَن لَه سؤال يُحيّرهُ ولا يَعرِفُ جوابَه ، وليَقصُدهُ مَن له مشكلةٌ لا يَجدُ لها حلاًّ ، وليقصُدهُ مَن يُعذِّبُهُ هَمٌ لا يَزول .
لمّا سَمِعَ أهلُ المدينةِ ما قالَهُ المنادي تَوجَّهَ العديدُ منهم إلى بيتِ طلال ، فرحَّبَ بهم ، وأعلنَ بوَقارٍ أنهُ مُستعِدٌّ لسَماعِ هُمومِهم ومُشكلاتهم . فتكلّمَ رجلٌ عجوزٌ هَزيلُ الجسمِ حزينُ العَينَين ، فقال لطلال : قضَيتُ عُمري كلَّه وأنا أكِدُّ وأتعَبُ ، ولكنّ الفَقرَ لم يُفارِقني ، فهل تَدُلُّني على وسيلةٍ للتخلصِ من هذا الفقرِ الطويل ؟
وقال رجلٌ آخرُ بصوتٍ غاضِب : العدوُّ كما تَعلمُ يَحتلُّ وطنَنا ، ويَحرِمُنا مِن حرّيّتنا ، ويَنهَبُ خَيراتِنا ، فكيف الخَلاصُ منه ؟
وقال أحدُ الفِتيانِ متسائلاً بعَجَب : أريدُ أن أعرفَ السببَ الذي جَعلَ العصافيرَ تكُفُّ عن التكلّمِ معي عندما كَبُرتُ .
وتكلّم رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ عن هُمومهم ، ثمّ سَكتوا ، ونَظَروا إلى طلال مُتلهِّفينَ إلى سَماعِ ما سيقولُه . ابتَسمَ طلالٌ ابتسامةً هازئة ، وقالَ لهم بصوتٍ مَليء بالاحتقارِ والتأنيب : أنتم جُهَلاءُ لا تَعرفونَ الحَياء ، فمُشكلاتُكم تافِهةً لا تَستَحقُّ أن أُفكّرَ فيها لحظةً واحدة ، أنا لا أريدُ مُشكلاتٍ تافهةً كمشكلاتكم ، إنما أريدُ مُشكلاتٍ ساميةً ومهمّةً تتلاءمُ مع عِلمي الغَزير .
استقبلَ الناسُ كلامَ طلالٍ بِصَيحات ، بعضُها مُحتَجَّة ، وبعضُها ساخِرة ، فغضِبَ طلال ، وقَطَّبَ جَبينَهُ ، وفكّرَ طويلاً ، فرأى أنّه عَبقريٌّ لا مَثيلَ له ، وأنّ مدينَتَهُ لا تُقدِّرُ العَبِاقرَةَ وتَحسِدُهُم وتَكرهُهم ، فعزَمَ على الرحيلِ عنها . هَجَر طلالٌ مدينَتهُ ، وقصدَ مدينةً أُخرى بعيدة ، وما أن بلَغَها حتّى وَجَد أهلَها يَتشاجَرونَ ويَصيحونَ بأصواتٍ غاضبة . فسألَهُم طلالٌ عمّا بِهم ، فقالَ له أحدُهم : نحن أيّها الغريبُ أهلُ مدينةٍ تَتّصِفُ بالحُمق ، وقد مات مَلِكُنا ونُريدُ اليومَ أن نختارَ أكثرَنا حُمقاً ليكونَ مَلكاً علينا ، ولكن كلّ واحدٍ منّا يَزعُمُ أنّهُ هو الأكثرُ حُمقاً . دُهِشَ طلال ، وهَمّ بِمغادَرَةِ المدينة ، غيرَ أنّ رجلاً منهم اعترضَ طريقَهُ مُتَسائلاً عن سببِ قُدومهِ إلى مدينتِهم ، فأخبرَهُ طلال بما جرى له في مدينتِه . فسادَ الصَمتُ لحَظات وكأنّ الناسَ قد تَحوَّلوا إلى تَماثيلَ من حَجَر ، ثمّ انفَجَروا ضاحكينَ ضِحكاً مَرِحاً طويلاً ، وسارَعوا إلى وَضعِ تاجِ المَلِكِ على رأس طلال قائلينَ له : إنّك تَستحقُّ ذلكَ التاجَ عن جَدارة .
لأن ما فَعَلَهُ في مدينتِه يُثبِتُ أنهُ يَفوقُهم حُمقاً ويُؤهّلُهُ لأن يكونَ مَلِكهُم . | |
مشاهده: 800 | |
مجموع التعليقات: 0 | |